spot_img

ذات صلة

جمع

في عيد القديس شربل… البطريرك الراعي : ” لبنان أرض قداسة وليس أرض حروب ونزاعات وقتل”

توج البطريرك الماروني الكردينال مار بشارة بطرس الراعي احتفالات...

“إكتشاف نوعي في وادي قاديشا يلقي الضوء على طريقة جديدة في التنسّك”

شغف الاستاذ فادي بارودي في وادي قاديشا لا يقف عند حدّ، هو الباحث الدائم في تاريخ النسك في الوادي والمكتشف فيه مئات المغاور والصوامع وناشرصورها في العديد من المقالات الصحفية،  وطابعها في كتب. هو المدافع الاول والشرس عن حماية الوادي ولا يزال، والمساهم الصامت بتصنيفه على لائحة التراث العالمي. صحيح أنه ليس من أبناء منطقة بشري، لكنه بفضل محبته لهذا الوادي واهتمامه بتاريخه كرس الكثير من وقته لاكتشاف مغاوره ومحابسه وصوامعه العاصيةالتي لم تكن معروفة من قبل، كما سلط الضوء على انماط الحياة النسكية المتعددة التي مرّت في الوادي. في 27 نيسان 2019 قدم الاستاذ بارودي المحاضرة في بشري ألقى فيها الضوء على معلومات جديدة تتعلق بالحياة النسكية في الوادي، مستندا ً الى مراجع ومخطوطات وابحاث عالمية لها مصداقيتها الفكرية.  ومما جاء في المحاضرة:

أيّها الحضور الكريم،

إرتأيت أن أعرض عليكم موضوعاً تحت عنوان:”إكتشاف نوعي في وادي قاديشا يلقي الضوء على طريقة جديدة في التنسّك”. هذه الاكتشافات أعطت بعداً جديداً مختلفاً عن التقليد المتّبع في وصف طريقة النسك في هذا الوادي، اذ أنّها تناقض الصورة النمطيّة والاعتقاد السائد أنَّ الحبساء في هذه المنطقة لم يقيموا في محابسهم منعزلين عن محيطهم وجماعاتهم الرهبانيّة، بل كانوا يستقبلون المؤمنين ويشاركونهم الصلاة.

لكن العدد الكبير للمحابس العاصية المنتشرة في كهوف الجُرُفين المحازيين لنهر قاديشا تُشير الى أنَّ القسم الأكبر من حبساء هذا الوادي اختاروا الانعزال عن الجماعة والعيش في تقشّف قاس داخل هذه التجويفات. على كل حال، التضاريس الصعبة والقاسية في هذا الوادي جعلت منه المكان الأنسب لحياة العزلة، ولهذا توافد اليه الحبساء بعد انتشار المسيحية، والذين اختاروا في أغلبهم هذا النمط من النُسك، كما تُأكّد وتُثبت اكتشافات جمعيّتنا وصُورنا لهذه الأماكن العاصية.

بدايةً، علينا أن نحدّد تاريخ دخول المسيحية الى هذا الوادي معتمدين على الآثار، اذا وُجِدت، ثم المخطوطات، ثم لاحقاً على التقليد الكنسي.

1-منذ القرن الأوّل الميلادي وأثناء الاضطهادات الرومانية، اختار المسيحيون الأوائل رمزاً لهم هو السمكة التي تعني ikhthus باليونانية؛ والسبب الأساسي لاختيارهم هذا الرمز أنَّ الحرف الأول من الأسماء التي تؤلّف عبارة “يسوع المسيح ابن الله المخلّص” باللغة اليونانية هي ikhthus أي سمكة: Iesous Khristos Theou Huios Soter هذا الرمز بقي مستعملاً، أقّله حتى مرسوم ميلان في نيسان 313 على أيام الامبراطور قسطنطين حيث تحوّل الرمز الى صليب. وسوف نرى أثناء عرض الصور حفر قديم للسمكة، وقد أكّد لي علماء الآثار الذين رافقوني في الوادي طيلة تجوالي في المنطقة، عن قدم هذا الحفر وأهميته من الناحية الأثرية. وبحسب عالم الآثار Charles Miller والذي كان حينها عميد كلية العلوم الانسانية في جامعة-Texas  St.Mary’s أنَّ حفر السمكة هذه يرتقي الى بداية المسيحية لأنّه قارن بين حفر قاديشا والنقوش المكتشفة للسمكة في أماكن أخرى بالطبع خارج لبنان؛ ثم استند الى بعض العوامل لتبيان قدم شكل سمكتنا منها الخطوط البسيطة مقارنةً مع الخطوط البسيطة لنقوش أخرى؛ أيضاً بخصوص القدم، استند على عوامل جيولوجية ظاهرة بوضوح، كتآكل الصخر المحفور عليه السمكة، وهذا ناتج عن العوامل الطبيعية، ماء، شتاء، جليد، هواء، غبار، الخ…ويسمّى بالفرنسية patine. (لسوء الحظ وبسبب الجهل، أحد الأشخاص من أبناء الوادي فجّر قسم من الصخر المحفور عليه السمكة اعتقاداً منه أنّها علامة تشير الى موضع الذهب، فأزال نصفها، لكن القسم المتبقّي كان كافياً لعلماء الآثار لتبيان قدم هذا الحفر. أيضاً، ولحسن الحظ، بقي حفرٌ ثاني يعلو الحفر الأوّل لكن معالمه غير واضحة الاّ لأهل الاختصاص).

2-مخطوط سرياني في المكتبة البريطانية رقمه 14542 كتبه يعقوب ربما من آمد (حالياً مدينة ديار بكر في شرق تركيا) في دير فعنور (في شمال سوريا) سنة 820 لليونان أي 509 ميلادي، حيث يذكر :«ليكن ذكرٌ للاونطي (الذي هو) من حدت في جبل لبنان الذي بين يديه حصل هذا العمل ودعت الحاجة وكتبت هذا الكتاب. ليكن ذكرٌ لمار حلفاي الحبيس في جبل لبنان…». خلال قرون عديدة، كانت تسمية لبنان أو جبل لبنان والتي ذُكِرت في عشرات المخطوطات السريانية والعربية تعني بالتحديد المنطقة الممتدّة من جبّة بشرّي حتّى جبّة المنيطرة؛ اذن حدت في جبل لبنان هي حدث الجبّة، وقد علّقD. Taylor الرئيس السابق لمعهد الدراسات الشرقية في جامعة أوكسفورد عن هذا المخطوط بقوله: «ربّما من أقدم المخطوطات المعروفة التي تذكر الحياة الرهبانية في جبل لبنان».

3-بحسب تقليد الكنيسة المارونيَّة، أسَّس دير قنّوبين تاودوسيوس الكبَّادوكيّ، في القرن السادس. أمَّا تقليد الكنيسة السريانيَّة الأرثوذكسيَّة (التي كانت تُسمَّى الكنيسة السريانيَّة اليعقوبيَّة) فيذكر أنَّ الإمبراطور تاودوسيوس الأوَّل (امبراطور 379-395م) في القرن الرابع، بنى أوَّل كنيسةٍ في جبل لبنان، وهي كنيسة سيِّدة قنُّوبين (هذه الاشارة موجودة في مخطوط 424Vat.Syr.  القرن 15 وايضاً مخطوط Berlin 245).

بعد مرسوم ميلان 313م حصل انتشار واسع وسريع للحياة الرهبانية، ممّا أدّى أيضاً الى انتشار الحياة النسكية على مختلف أشكالها، وصار لها طُرق متعدّدة، أغلبها خارج الأديار. P.Canivet ناشر كتاب “تاريخ رهبان سوريا” أو Histoire Philotée للأسقف Théodoret de Cyr– تيودوريتوس القُرشي حوالي 444م وفي مقدّمة الكتاب، يُعلِّق الناشر على هؤلاء الرهبان الذين اختاروا النسك بقوله:”اقتنعوا أنَّ الشر نابع من المادة، وللخلاص منه (الشر) عليهم أن ينبذوا ويرفضوا المجتمع ككل، وعليهم تحميل الجسد أقصى درجات العذاب للوصول الى التوبة والتكفير عن الذنوب، حتّى أنّهم نبذوا الحياة المشتركة في الأديار وانقطعوا عن الجماعة. فمن الطبيعة المتوحّشة ينتظرون قوتهم، فلا عمل، ولا صدقة ولا حسنة من أحد. معرّضون لمختلف العوامل الطبيعية، يتلّهون مع الحياة والموت، معتمدون فقط على الله لينقذهم”.

يذكر J. Lacarrière في كتابه “السكارى بالله” والذي يُعتبر المرجع الأهمّ في النُسك والنسّاك “بالنسبة لهؤلاء الحبساء، كان شعورهم مفعماً بالرموز والصور المستمدّة من الكتاب المقدّس… تحرّروا من المجتمع ومن الوقت فعاشوا خارجهما ونبذوهما، وهذا شيء مريع اذ يصيب الانسان في صميم طبيعته الاجتماعية… تخلّوا أيضاً عن الضحك والإبتسامة وحتّى الكلام باعتبارهم ملهات تُبعد الحبيس عن عبادة الله”.

لا أعرف اذا كان الحبساء الأوائل في بداية المسيحية وفي هذه المنطقة ينطبق عليهم هذا الوصف في الزهد المروع، لكن ما شاهدناه في استكشافاتنا في صوامع هؤلاء العبّاد أماكن لا تليق لسكن البشر؛ فهي أشبه بأعشاش الطيور وأوكار الزواحف، وهي مثالاً للذروة في قهر الجسد للإرتقاء الى الأعلى روحانيّاً، وهي تختلف عن المحابس الأخرى المنتشرة في أنحاء الوادي المقدّس إن من حيث السكن أو طريقة التنسّك؛ ففي وادي قزحيّا محابس مار بيشاي ومار ميخائيل ومار بولا، وهي مناسك سهلة الدخول والخروج منها، وكان باستطاعة الحبيس العمل في الأرض المحيطة بها واستقبال المؤمنين. أيضاً في وادي قاديشا وبالقرب من دير مار أبون محبسة مار سركيس سهلة الدخول اليها، ومحبسة مار انطونيوس بالقرب من دير قنّوبين. اذن وُجدت في هذه المنطقة مدرستين مختلفتين في الحياة النسكيّة، إمّا الانقطاع التام عن الجماعة أو البقاء معها.

هذه الصوامع العاصية لها خمس ميّزات أساسيّة: وجود بقايا لقطع من الفخّار وفي بعض الأحيان وجود بقايا لعظام بشرية (على كل حال وطوال السنين التي قضيتها مستكشفاً في هذه المنطقة لم أصادف قط كهفاً أو ملجأً صخرياً أو تجويفاً الاّ وفيه أثر لسَكَن قديم)، صعوبة الوصول اليها، وضيق المساحة للبعض منها، والانقطاع التام عن الجماعة بالنسبة للحبيس الساكن فيها، واختفاء أسماء هذه المحابس مع مرور الزمن.

في هذه الأمكنة التي استكشفناها، يبدو أنَّ اتّصال الحبيس بجماعته كان محدوداً جدّاً، ونحن نعتقد أنَّ الاتصال الوحيد كان، افتراضيّاً، الحبل المربوط فيه سلّة والذي يقتصر على مساعدته من قبل أحد لتأمين قوته الزهيد، فقط ليبقيه حيّاً، لأنَّ هذا النوع من الاستحباس يفرض على الحبيس أن لا يخرج من مكانه حتّى نهاية حياته. هناك مخطوط للكنيسة السريانية الأرثوذكسيّة يسمّي هذا الوادي “وادي الذخائر” (مخطوط سوني-شرفة 109 كُتِب 1511م)، أغلب الظنّ بسبب عظام وثياب الحبساء المتبقّية داخل هذه الكهوف العاصية والتي اعتُبِرت ذخائر مقدّسة بعد موتهم.

الجُرُف الذي يعلو ويحيط بدير مار اليشاع هو الأغنى من حيث كثرة المحابس داخل الشقوق والتجويفات؛ سألني احدهم عن المحبسة الشهيرة التي تقع في وسط الجُرُف، وبما أنّها فوق دير مار االيشاع اذن الناسك لم يخرج من الجماعة فهو قريب من الدير، بمعنى آخر أنّه لم ينقطع عن المجتمع. نحن اعتدنا على الصورة النمطية وعلى النص التقليدي في كتابة تاريخ منطقة قاديشا؛ النص التقليدي هذا لا علاقة له عمّا كان عليه الوادي منذ دخول المسيحية اليه. فالأديار مثل مار اليشاع أو مار انطونيوس قزحيّا لم تكن كما هي عليه اليوم؛ فبدايةً هذين الديرين كانا محبسة وكنيسة صغيرة داخل تجويف. حاليّاً يوجد في الوادي مجموعة من الأديار بقوا على هندستهم منذ مئات السنين، جميعهم داخل ملجأ صخري أو داخل كهف، بينهم دير الصليب، دير مار جرجس الأحباش، دير ما يوحنا، دير مار أبون حيث كنيسة الدير مبنية داخل مغارة (دير مار أبون كان المترّئس على جميع المحابس في الوادي). أقدم تاريخ يذكر دير مار اليشاع يعود لسنة 1315م، فماذا اذاً عن الألف سنة قبل هذا التاريخ؟ يذكر الأب جرمانوس فرحات أحد مؤسّسي الرهبنة المارونيّة انّه في سنة 1708 عندما تسلّمت الرهبنة دير مار انطونيوس قزحيّا “كان ساكناً فيه كاهن وراهب وهو شكل محبسة وكنيسة في مغارة…”، وأغلب الظنّ أن.المغارة هي تلك الموجودة على مدخل الدير.

بالعودة الى جُرُف مار اليشاع، الحبساء اختاروه لأنّه الأصعب ومن المستحيل أن يلتقوا مع أحد أو يزورهم أحد. اعتقادي الشخصي أنَّ هذا الدير تأسّس بسبب كثرة المحابس حوله وليس العكس. وادي قاديشا هو الأمثل لهذا النمط من الحياة أي الحياة الرهبانية والنسكية كما ذكرت سابقاً، لهذا توافد اليه المتعطّشون الى الرهبنة والنُسك؛ والأديار في هذا الوادي كانت بدايةً داخل مغاور وتجويفات سكنها النسّاك ومنهم من فضّل العيش ضمن الحياة المشتركة.

أخيرًا، نختم بالقول أنّ وادي قديشا منذ القرون الأولى للميلاد كانت تفوح منه عطور القداسة والصلوات والابتهالات الى الله، وتاريخ هذا الوادي حافل بالصوامع والكنائس والرهبان والنسّاك، وهو يلخّص بتاريخه بداية الحياة النسكيّة في لبنان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • الاستاذ فادي بارودي رئيس الجمعية “اللبنانية للابحاث الجوفية”.
  • نشرت هذه المحاضرة على الموقع الالكتروني للجمعية www.cavinglebanon.com  تحت عنوان ” :”إكتشاف نوعي في وادي قاديشا يلقي الضوء على طريقة جديدة في التنسّك”.
spot_imgspot_img