بين بعلبك والأرز خطّ الخلود ذاك. هناك لبنان التاريخ والجيوش العابرة فينا التي تحطمت عند قلاع مدينة الشمس، وهنا أرز من فائض طيوب الرب حين قرر أن هنا ستكون أرزة الرب شاهدا ورمزا لخلود وطن، وحيث قرر الرب أن يكون له بيت في عمق شجرة التاريخ، فعبق المكان من حضوره، وهنا كانت آخر ليالي مهرجانات الأرز الدولية وكانت فرقة كركلا، وكان يا ما كان في قريب الزمان هلأ منحكي وبعد شوي… لن ننام بل نذهب لنحيّك حكاية جديدة لمهرجان حاك من حوله الكثير من الخبريات وهو بعد في سنته الثانية.
لأنك تعرف أن ساعة الرحيل حانت، تحاول أن تلتقط آخر الأنفاس، آخر اللحظات. آخر اللحظات في مهرجان الأرز قلوب دبكت في مكانها، وقعت حينا على الأرض مع الأجساد المتطايرة، وعادت واستنهضت حالها حين رأت ان لا وقوع هنا إنما ارتفاع في منسوب الإبداع لفرقة تخطت من زمان حدود الوطن لتجعل من فنها حكاية زمن لبناني مبدع عابر لكل الأزمان.
هنا الأرز وهنا المهرجان وهنا كانت فرقة عبد الحليم كركلا في ليلتيه الأخيرتين، وهنا الناس وليس الجمهور “الحبيب”، هنا لا جمهور ولا حبيب ولا كل ذاك الابتذال في التعبير والمضمون، هنا الناس حين تحولت الى فرقة متفاعلة مأخوذة مسحورة بما يجري أمامها، كيف تتحول الموسيقى الى لغة الجسد، كيف يصبح الجسد قطعة حرير تتمايل في هواء النغمات، كيف تتحول الريح الى إيقاع تتحايل فوقه الأجساد المتهاوية فوق النغمات ولا سقوط؟
قد لا نستطيع أن نفسّر عمق الإبداع ذاك، ولا أجساد الراقصين التي سابقت النسمات لتعبر فينا كالنسيم الى غير ضفاف، لكن يمكن أن نترجم بعضا من إحساس اللحظة وخصوصا في العرض الثاني والأخير لفرقة كركلا فوق مسرح الأرز، بدا كل شيء وكأنه يودّع اللحظة، حتى الأرزات في الغابة القريبة كانت تنتظر انفجار لحظة ما، اللقاء كما الوداع انفجار المشاعر، وكانت اللحظة المنتظرة في الفقرة الأخيرة من العرض التي خصصت للأرز.
“في شي حرّكني هيك طيرني بعيد” قالت سيدة من الحضور بعد انتهاء العرض، لم يكن وحده ما قدمه كركلا تحديدا الذي أطلق مشاعر الحرية تلك، لكن كركلا في الأرز بدا وكأنه حمل هياكل بعلبك على ظهره ليلقيها في نغمة المزمار وأنشودة الحدى البعلبكية، وتمايل الرقصات في لوحة كأنها هناك قرب عائلات السهل وهن يغزلن التعب مواسم، مشاعر الحرية انطلقت مع صوت جبّار لم يمر عليه الزمن وإن كانت خمرته من خوابي الوقت في الأغنية اللبنانية الجبلية، نحكي عن جوزف عازار، عن الموال والصوت الجبلي الهادر عنفوانا، جوزف عازار لم يكن راجح الكذبة ولا بائع خواتم عابر في ضيعة منسية يقدمها هدية لعذارى ينتظرن قلبا يعانقهن في عيد العزّابي، جوزف عازار كان جار الأرز الآتي من بعلبك، هناك روى للهياكل حكاية من لبنان، وهنا صدح بالصوت والقلب ليحكي عن عز من شعاع الرب في غابته التي صارت معبد لبنان “ع أرض الربّ عز وكرم تهدينا الأرز يا مجد زرعت المجد فينا” والراقصين من حوله يهدرون بالدبكة اللبنانية فوق خشبة بدت وكأنها متراس منه نصد الأعادي، عليه نحارب شياطين الموت والجهل والتطرّف والسلاح.
بالصوت الهادر عنفوانا والأجساد المتمايلة جنونا في النغمات، تحوّل مسرح الأرز الى جبهة يسرح فوقها المقاتلون والناس تتفرّج على “الحرب” الدائرة المستعرة فوق، والمفارقة أن أحدهم لم يختبئ، ساهموا في اشتعال النيران، هناك كانت الجبهة حبا وإبداعا، والمقاتلون فنانين راقصين خلّاقين ملتهبين بحب ما يقدمون، والناس اشتعلت فيهم تلك الريح تلك الحرية فصاروا هم الساحة وهم المستهدفون وهم المصابون بسهام الحب ولا شهداء ولا قتلى، وحدهم من اعتنقوا الموت في الحياة كانوا القتلى في تلك الليالي، قتلى وليس شهداء. من لا يحب الحياة ميت وهو حي، من لا يعتنق الأرز ملحد ولو أشبع المعابد من زياراته وصلواته، من أنكر ذاك اللبنان هو عميل عميل غريب ولو عاش عمره أعمارا فوق هذه الأرض، هذه كانت رسالة كركلا في الأرز وقبلها في بعلبك.
قصة شهرزاد تلك بموسيقى عالمية أدخلت الناس في عالم الأسطورة، في حكايا شهرزاد وعاشقها، وليأتي من بعدها الفولكلور اللبناني ولوحات من قلب الجبل وعنفوانه والسهل وشاعريته، وإذ بعمر كركلا بشرواله البلدي وكوفية الفلاحين المعتّقين بعرق التعب والأرض والعنفوان، يحمل المسبحة إياها ويدور بدبكته الأخيرة الرشيقة على الراقصين كمن يستودعهم أسطورة الوطن حين تنفلش ع فيراندا الضيعة، أمام مواسم فلاح يضحك للشمس التي لفحت أرض البركة، ويأخذ الناس معه الى وطنهم الأصيل، الى حيث يحبون، الى لبنان العز والحب والحلم والحكاية، الى وطن الأوطان يا ربي حيث لا موطن لنا إلا هنا في قلب كل ذاك الوجع الفرح الخوف الحب الأمان، وطن الأزل دائما…
“رجّعتوني خمسين سنة لورا وما بعرف كيف بدي اشكركن، من خمسين سنة جيت لهون وحسيت حالي بعدني هون ما مرق الوقت، كنت حس حالي مهمة بوقتها وهلأ حسيت حالي بعد أهم” قالت الفنانة هدى بتأثر بالغ بالمكان والاستقبال والحضور وجو الغابة، هي التي شاركت في العمل الاستعراضي لكركلا، تلك الفنانة الرقيقة شقيقة فيروز وشبيهتها، تلك التي على مر الأعوام زرعت في أحلام الصبايا حلم الحب والمشاعر الرومانسية والحبيب المنتظر في صوت أنيق رقيق، وحضور سيدة راقية تحترم فنها وتاريخها وتاريخ من نقلها الى عالم الضوء، الرحابنة، لم يمر الزمن على صوت هدى ولا على وجهها وإن حفر فيها معالم النضوج تلك، لكن بقي الصوت صوتا وبقيت تختار حضورها على مسارحنا وفق ما يليق بها وبالأمكنة الكبيرة، ويليق بها الأرز…
عبد الحليم كركلا الذي طاف العالم بفرقته، كانت المرة الأولى له في الأرز، لبس الرجل عباءته البعلبكية وجاء المكان زائرا، لم يعرف أنه الى هذه الدرجة هو من أهل البيت، أهل الأرز، هو يعلم أنه في مشهدية الإبداع اللبناني هو الأول في مجاله، هو اللبناني العالمي الذي تنحني له خشبات الدنيا حين ترتفع أجساد راقصيه فوق أوتار الألحان العالمية واللبنانية، لبنان معه صار عالميا، ومع ذلك وهرة الأرز مختلفة، هنا الرب يتجوّل كيف لنا حضور مماثل ألا نستهاب؟ جاء عبد الحليم كركلا الأرز حاملا عباءتين هدية، قدم الأولى في الليلة الأولى لستريدا جعجع، شاكرا للسيدة كل ذاك العناء والنجاح والحماس والاستقبال، وذاك المهرجان الذي في أولى خطواته تحوّل الى محطة ثقافية فاقت سواها من المحطات بوقت قياسي، حمل لها بعلبك في العباءة والقلب والموال وشكرته على إبداعه وحضوره ولبنانيته العريقة المتجذرة هناك في السهل الأخضر وهنا حيث الرب للجميع ولكل من يحمل هويته الحقيقية، لبنان ولا لبنان سواه.
في الليلة الثانية حمل كركلا عباءته الثانية وأسدلها فوق أكتاف سمير جعجع، هو اللقاء الأول بين الرجلين الى مائدة عشاء بعد الحفل الختامي للمهرجان، “إنتَ لازم تعرف إنو ولو ما كنت موجود معنا بيكفي يكون لبنان موجود بقلبك حتى تكون بقلب كل لبناني بيحبّ لبنان” قال عبد الحليم كركلا للحكيم، ولبس الحكيم العباءة طوال السهرة مجالسا ضيفه، ولما ترك كركلا المكان بقي فيه، متأثرا بناس المكان، بالاستقبال الحار، بالتكريم الذي يليق بفنان من طرازه العالي، وليقول الحكيم عنه في اليوم التالي “عبد الحليم كركلا فنان مبدع عميق عميق كتير، مثقف ومشبع بالتقاليد البقاعية وبلبنانية صافية صافية”.
ماذا يقال بعد؟ يقال الكثير عن مهرجان طُرّز ليلة بعد ليلة بهمّ القلب وليس أقل، عن سيدة تعشق مكانها، تأخذ مهامها كنائب عن المنطقة على أكثر من محمل الجد، صار منصبها قضيتها وناسها وهمّها وحبها والمستقبل الذي ترسمه لهم ولمنطقتهم ولا تتعب، ولا تريد، وتعد الجميع بالمزيد من التعب الى درجة الإنهاك، ولكنه ذاك التعب اللذيذ حين يأتي آخر النهار وتأكل معهم ثمرة كل ذاك الجهد من كل ذاك النجاح الباهر الاستثنائي، نحكي عن ستريدا جعجع وكل من معها وحولها.
يقال الكثير عن لجنة منظمة تفرّع منها الكثير من اللجان المنظّمة ليكون مهرجان الأرز عالميا ببرنامجه، وأيضا بتنظيمه واستقباله وحسن اهتمامه واحترامه للناس المقيمين والضيوف من كل الوطن، لجنة تضمنت خيرة الشباب في الخبرات كافة التي جعلت من التقنيات المعتمدة حفل إبهار تفوّق على ما عداه من المهرجانات في كل لبنان وباعتراف الفنانين المشاركين أنفسهم.
هيدا مهرجان إلو أهل، إلو بي وإم، بتعرف حالك عند مين جايي وشو جايي تعمل”. نكرر ما قاله سمير جعجع ونضيف، هيدا مهرجان إلو أهل ومنعرف لوين رحنا وشو شفنا، لكن لم نكن لنتوقع أن يجعل منا ذاك المهرجان قنابل فرح، وان يحرّض فينا ذاك اللبنان الذي يهمد أحيانا تحت وابل ضربات المشركين والفاسدين، وإذ بنا نعود لنكتشف حالنا، إننا ملائكة وشياطين هذه الأرض وإننا لها وسنبقى فيها جنود حين يقرع الخطر، وقلوب هائمة حين يقرع الحب، وأغنية ساحرة حين يضج فيها السلام والثقافة، ونحن كل هؤلاء في شخص واحد للبنان واحد نقسم أننا له في كل مكان وفوق بفيّات هالأرزات لـ عن جدّ عجقوا الكون فقط بأربعة أيام بلياليها…
فيرا بو منصف