spot_img

ذات صلة

جمع

مهرجانات صيف قنات 2024

ككل سنة تتحدى لجنة مهرجانات قنات الأوضاع الصعبة، وتحرص...

مهرجان الطفل في بشري: منصة ترفيهية للأطفال والعائلات

يُعد مهرجان الطفل في بشري ، الذي انطلق قبل...

في عيد القديس شربل… البطريرك الراعي : ” لبنان أرض قداسة وليس أرض حروب ونزاعات وقتل”

توج البطريرك الماروني الكردينال مار بشارة بطرس الراعي احتفالات...

التواجد المسيحي – الاسلامي الحـرّ في لبنان

يميـّـزه عـن غـيره ، ومن دونه ، لا وجـود للبنان

في ظل المتغيرات التي تعم ّ الشرق الاوسط ، وفي ظل ” الربيع العربي ” الذي بزغ فجره في سماء أكثر من بلد ، وفي ظل  ثورة كبرى غير مسبوقة في تاريخ المنطقة  بأكمله، ثمـّة منارة اسمها – شارل مالك –  نضيء عليها، ونستضيء بها ونهتدي بفكرها. ونظرا ً لدقة الاوضاع وحساسية المرحلة ، نستعيد ما كتبه في مقالة حول ” التواجد المسيحي – الاسلامي في لبنان ” الذي يميـّز بلدنا عن غيره من بلدان المنطقة ، ليتذكر الجميع أنه في اللحظة التي يختل فيها هذا الوجود يختل وجود لبنان . 

     لا أعرف تواجدا ً صادقا ً حرا ً مثله في التاريخ . واذا كان الامر كذلك ، فلأنّ الاسلام دين عالمي كبير ، ولأن المسيحية أيضا ً دين عالمي كبير حرّ، فأن يتواجد الدينان معا ً ، سلميا ً ، بحرية ومساواة ، في بلد واحد ، في ظل نظام واحد ، هذا لعمري شيء عظيم في التاريخ. هنا لا ينظر المسيحي الى مواطنه المسلم انه دونه في القدر والكرامة ، ولا ينظر المسلم الى مواطنه المسيحي انه دونه في القدر والكرامة . هنا يشعر المسيحي انه في بيته تماما ً ، من حيث عاداته وتقاليده وثقافته ، من حيث اتصالاته بالعالم المسيحي ،  من حيث حرياته المسيحية الكيانية ، تماما ً كما يشعر أي مسيحي في أي بلد مسيحي في العالم . في فرنسا أو اسبانيا أو المانيا أو ايطاليا أو بريطانيا أو أميركا . ويشعر المسلم كذلك  انه في بيته تماما ً ، من حيث اتصالاته بالعالم الاسلامي ، من حيث حرياته الاسلامية  الكيانية ،  تماما ً كما يشعر أي مسلم في أي بلد مسلم في العالم ، في مصر أو السعودية أو العراق أو ايران أو الباكستان  أو أندونيسيا . اللحظة التي يبطل فيها هذا التساوي الكياني بين المسلم والمسيحي في لبنان ، يبطل لبنان . واذا تأملنا هذا الحدث الواقع الفذ ّ ، بدقة وإمعان نظر ، وسبرنا غور مغزاه الحضاري والروحي والكياني ، ألفينا أنفسنا أمام ظاهرة من أعجب ظاهرات التاريخ ، وأروعها  وأشدها خصبا ً في أبعاد المستقبل . شيء كهذا لم يحدث بعد في التاريخ .

أنا أشعر ، وكل مسيحي يجب أن يشعر ، أنه ، كلبناني ، يستطيع أن يتصل اتصالا ً حميميا ً بمسيحيي العالم عبر الزمان والمكان ، وأن يتعمق ، كلبناني ، في مسيحيته ، ويعيشها ، ويكونها ، تماما ً ، كما عاشها وكانها بولس وأوغوسطينوس والذهبي الفم والدمشقي والأكويني . ولذلك ليس فقط شخصيا ً وبالسر ، بل في عائلته وبيئته ومجتمعه وعاداته وأدبه وحياته وقريته ومدينته ، وعلى رؤوس الاشهاد . والشيء ذاته يجب على كل مواطن لبناني مسلم ، بصفته لبنانيا ً، ان يعيشه ويكونه ، تماما ً كما عاشه وكانه علي والغزالي والأشعري ومحمد عبده . وذلك أيضا ً ليس فقط شخصيا ً وبالسر ، بل في عائلته وبيئته ومجتمعه وعاداته  وأدبه وحياته وقريته ومدينته ، وعلى رؤوس الاشهاد .   هذا دور عالمي تاريخي هـائل يلعبه لبنان اليوم.

أريد، أنا اللبناني المسيحي ، أن أقول في حضرة المثلث الرحمات ، قداسة البطريرك اثناغوراس ومعه، أريد أن ان أقول ” نحن الارثوذكس ” متحسسا ً بصدق واخلاص جميع مشاكل الارثوذكس ومشاعرهم في العالم كله ، كما أريد ان أقول ، وفي حضرة رئيس أساقفة كانتربري ومعه ، وفي حضرة رئيس المجلس الوطني للكنائس في أميركا ومعه ، اريد ان أقول ” نحن المسيحيين ” ، متحسسا ً بصدق واخلاص جميع مشاكل المسيحيين ومشاعرهم في العالم كله . هذا ما يريده كل لبناني مسيحي ، وهذا ما بإمكانه عمله بالفعل . ولا يعيقه عن عمله اي اعتبار اجتماعي أو سياسي أو قومي.

وأنا ، كلبناني مسيحي ، أريد أن يقول أي لبناني مسلم في حضرة أي زعيم مسلم ومعه ، في مصر أو السعودية أو ايران أو الباكستان ، اريد ان يقول ، ” نحن المسلمين ” متحسسا ً بصدق واخلاص جميع مشاكل المسلمين ومشاعرهم في العالم كله . أريد أن يقول المسيحي والمسلم ، كل ّ من ناحيته ، هذا القول . وأن يبقيا مع ذلك أخوين مواطنين لبنانيين مخلصين محترمين بعضهما لبعض.

 في اللحظة التي يستحي فيها المسلم في لبنان ، أو يتحفظ ، في الشهادة التامة لإيمانه الاسلامي يختـلّ وجود لبنان. وفي اللحظة التي يستحي فيها المسيحي من لبنان ، أو يتحفظ ، فيالشهادة التامة لايمانه المسيحي، يختـلّ وجود لبنان.

أنا  أتكلم كلبناني مسيحي ، وأترك  لأخي اللبناني المسلم أن يتكلم هو بحرية تامة ، عن ايمانه . فكلبناني مسيحي ّ أقول ، في اللحظة التي  لا أستطيع فيها ، أو استحي ، أن أشهد بحرية تامة ، وعلى رؤوس الاشهاد ، أني أؤمن ايمانا ً جازما ً بحقيقة التجسّد التاريخي ، وبيسوع المسيح كمخلص للعالم كله ، وبقوة الصليب ، وبالكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية، وبتراث القديسين المتواصل المتراكم ، وبأن الله ، قبل كل شيء ، طهارة وقداسة ومحبة وفرح وخلق وحرية ، وبأن أهم شيء في الوجود هو الشخص الانساني ، وبأنني لا أستطيع أن أكون ذاتي إلا ّ بالاتصال العضوي التاريخي الدائم بتراث القديسين ، في الشرق والغرب على السواء ، وبالمراكز الفعـّالة التي تحيا هذا التراث ، في اسطنبول  ، وأثينا وروما وموسكو وميونخ وباريس ومدريد واكسفورد وتورنتو ونيويورك وبوسطن وريودوجنيرو ، في اللحظة التي لا أستطيع أن أشهد واكون هذا كله ، بحرّية تامة وعلى رؤوس الاشهاد ، في تلك اللحظة يختلّ وجود لبنان.

وأنا أناشد أخي المسلم بمحبة تامة ، أن يشهد هو لما يؤمن به بحريّة تامة ، وأن يؤكد على ضرورة اتصاله العضوي الدائم بالمراكز الفعّالة في العالم كله التي تجسّد وتحيا ايمانه وتراثه .  قد يظن البعض أن المسيحية والاسلام ” نظامان ” فكريان واجتماعيان تخطاهما الزمن ، وأن ثمة ” أنظمة ” جديدة ، في الفكر والحياة والمجتمع ، هابطة علينا ، أو نابعة منا، ستحل محلهما .  في تلك الحال سينسى المسيحي مسيحيته والمسلم اسلامه ، ويتحدان في دين جديد . أنا لا أشاطر هذا الرأي، وذلك لسبيبن:

أولا ً : اذا قابلت ” الأنظمة أو الأديان ” الجديدة النابعة منـّا أو المنقضّة علينا بالاسلام والمسيحية ، ألفيتها جميعا ً سطحية بالنسبة لهذين الدينين . التراث الابراهيمي أعمق ، وأكثر أصالة ، وأشدّ إشباعا ً لعطش النفس الكياني من ” نظام ” أو ” دين ” مادي أو اقتصادي أو اجتماعي أو قومي جديد.

ثانيا ً : ان مصير المسيحية والاسلام لا يتوقف علينا في لبنان ، بحيث حتى اذا تمكنـّا من صهر هاتين الديانتين في ” دين ” او ” نظام ” ثالث جديد ، زالتا من الوجود في العالم كله . مهما  ” نفـّض ” المسيحي من مسيحيته في لبنان ، ومهما ” نفـّض ” المسلم من اسلاميته ، تبقى المسيحية حيـّة نابضة ، ويبقى الاسلام حيـّا ً نابضا ً في غير هذه الديار، وبقاؤها هذا يتحدّانا من جديد ، ويذكرنا بما كنـّاه وما تركناه . مصير المسيحية بيد المسيحية ، لا بيد لبنان. ومصير الاسلام بيد الاسلام لا بيد لبنان . وكلاهما أوسع نطاقا ً وأشدّ عمقا ً من أي شيء يحدث في لبنان . أن يزعم البعض أن باستطاعتهم إلغاء المسيحية والاسلام من الوجود ، وإبدالهما ” بدين ” آخر ، هذا الزعم يدلّ على جهل لطبيعة المسيحية وطبيعة الاسلام .

مجالات التعاون والتفاهم بين المسلم المسيحي في لبنان ، لا حـدّ  لها . يتعاونان ويتفاهمان في السياسة والمجتمع والعلم والفن والاقتصاد والمشاريع والحياة الواحدة العامة . في الخلق الأدبي والفكري ، في الشؤون الاخلاقية ، في هذه اللغة العربية العظيمة ، في كل ما يمت ّ الى العقل والانسان والطبيعة ، في الاسلامية الإنسانية العظيمة الممثلة في آيات من القرآن لا حصر لها ، وفي أحاديث شريفة لا حصر لها ، وفي التراث الفلسفي والصوفي الاسلامي العربي الكبير ويتعاونان ويتفاهمان كذلك ، في مجابهة مصير لبنان والعرب والشرق الأوسط معا ً . وتوجد مجالات هامة كذلك للتفاهم ، حتى في بعض الشؤون العقائدية الدينية ، شرط أن يكون كل منهما مخلصا ً غير منافق لدينه ومعتقده ، محترما ً دين الآخر ومعتقده .    

لذلك، فالتواجد الاسلامي – المسيحي الحرّ السمح يميّز لبنان تمييزاً تاماً عن غيره، وبدون هذا التواجد لا يوجد لبنان.

لبنان الحرية

لا اقصد بهذا ان لبنان هو البلد الوحيد، او ان الحرية فيه كاملة. لكن الانسان يستطيع هنا ان يكون نسبياً ان شرّاً او خيراً، كما يملي عليه ضميره، او تدفعه اليه نزوته. هنا اعاشر من اشاء، واخطب ما اشاء. هنا تحترم كل فئة او طائفة حرية كل فئة او طائفة اخرى تمام الاحترام. الحرية التي لا تكون في بلد تعددي كلبنان الا بالمبادلة، لذلك فالاحترام هنا بين الطوائف او البيئات او الاشخاص متبادل. الحرية لا تبقى الا اذا كانت مسؤولة. ولذلك نعرف تماما في لبنان ان نميّز بين الحرية التي تؤول الى القضاء على الحرية، وبين الحرية التي تطهّر الحرية وترفعها وتصونها وتعمقها، اعني بين الحرية الزائفة المنافقة التي تنقض نفسها، لانها تجهر بالحرية، ولا تؤمن بها. وبين الحريّة الاصيلة المنسجمة مع نفسها. سلوا الآتين الى لبنان من مختلف البلدان، تسمعوهم يقولون بصوت واحد: في اللحظة التي تطأ فيها اقدامنا ارض لبنان، نشعر بمناخ الحرية، نتنفس الصعداء، ترفرف اجنحة نفوسنا كاننا في طلاقة الفضاء الرحب، نصبح بشراً احراراً.

الحرية تعني احترام الانسان في كرامته الاصيلة التي لا تُنتزع منه، ايّاً كانت تقلبات الدهر عليه. وقبل كونك يا اخي الانسان اي شيء آخر، فانت انسان، مثلي تماماً في انسانيتك، انسان بعقلك وضميرك واحاسيسك وآلامك، وقدرك قيم الوجود. فان احترمك بحريتك الكيانيّة كانسان، يعني اني احترم نفسي انا. وان احتقرك او استغلّك، يعني اني احتقر نفسي واستغلها. بالحرية الانسانية الكيانية الاصيلة النابعة من الاحترام العميق للعقل والحقيقة يكون لبنان ويبقى.                                                 

spot_imgspot_img