بعد المؤتمر العالمي الأوّل الي عقد في الولايات المتحدة الأميريكيّة في العام 1999، والمؤتمر العالمي الثاني الذي عقد في جامعة ماريلاند حيث كرسي جبران في الولايات المتحدة نفسها في العام 2012، ولطالما جسّدت أعمال الكاتب اللبناني العالمي الكبير جبران خليل جبران ثورة الإنسان على الفقر والجوع والتمييز وثورة الجمال على الدمار والدخان وثورة الضعف على القوة. أقيم المؤتمر العالمي الثالث للدراسات الجبرانيّة في بيت الأمم المتحدة في بيروت الملاصق لحديقة جبران خليل جبران العامة بيروت في الرابع والخامس والسادس من شهر كانون الثاني من العام 2018، ، بعنوان “جبران القرن الحادي والعشرين: رسالة لبنان الى العالم“. . وذلك بدعوة ثلاثيّة من لجنة جبران الوطنيّة وكرسي جبران في ولاية ميريلاند الأميريكيّة ومركز التراث اللبناني في جامعة ال LAUاختارت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا الإسكوا إحياء اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية هذه السنة على ضوء أعمال جبران الأدبية والفنية. وفي التفاصيل، أنه تمّ دعوة باحثين ومهتمّين من كل من الولايات المتّحدة الأميريكيّة، وخاصّة ولاية ميريلاند حيث كرسي جبران وولاية جورجيا حيث متحف تلفير، وأوروبا والشرق الأقصى وأوستراليا لهذا المؤتمر. كما حضره ممثّلون عن جامعة تونس العاصمة من الدول العربيّة، برعاية وزيرالشؤون الاجتماعية اللبناني بيار بو عاصي وحضوره وبمشاركة وكيل الأمين العام للأمم المتحدة والأمين التنفيذي للإسكوا الدكتور محمد علي الحكيم وحضور رئيسة لجنة التربية النيابية النائب بهية الحريري ورئيسة الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية السيدة كلودين عون روكز ونخبة من المثقفين والمفكرين لمتعمقين بأدب الكاتب اللبناني وفنه فضلاً عن عدد من المسؤولين والديبلوماسيين وممثلين عن وكالات الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني وخبراء في مجال العدالة الاجتماعية في لبنان والمنطقة.
وتضمّن الاحتفال أداءً غنائيًا لمختارات من قصائد جبران قدّمه التينور والموسيقيّ اللبناني غبريال عبد النور ومعرضًا لأشهر أعمال جبران الفنية.
وفي مستهلّ اللقاء، أعرب الحكيم عن غياب العدالة الاجتماعية في المنطقة العربية عمومًا وقال: “نحيي يوم العدالة ومنطقتُنا على ما يشبه السباق، بين إنجازات ونكسات. لقد كرّست الدول العربية مبدأ العدالة في دساتيرها ودعمته بتشريعات لتعزيز الإنفاق على الصحة والتعليم وتوسيع الحماية الاجتماعية وأكّدت تمسّكها بالعديد من مقوّمات الحماية والمساواة وشروط العيش الكريم. غير أنّ ما تعيشه المنطقة من ظروف عصيبة يهدد بتراجع قد يطيحِ بما تحقّق. تراجعٌ تعدّدت أَسبابُه، وقد يكون على رأسها غياب العدالة الاجتماعية، بما تعنيه من مساواة وإنصاف ومشاركة، واحترام لحقوق الإنسان“.
وفي كلمته، تحدّث الوزير بو عاصي عن عمل الوزارة في لبنان الذي يشمل دعم اليتيم والمسنّ والفقير والمرأة المعنّفة وذوي الاحتياجات الخاصة والإدمان وهي جميعها حالات تتطلب تضامنًا بين جميع مكونات الوطن ودعمًا سياسيًا من أجل التوصل إلى نتائج عملية. وقال إنّ ميزانية الشؤون الاجتماعية لدعم كلّ هذه الملفات تبلغ 1% من قيمة ميزانية الدولة فقط. وأضاف بو عاصي: “في لبنان، هناك 10 آلاف عائلة يأكلون مرّةً كلّ يومين. وإن أردنا العدالة الاجتماعية، علينا أن نملأ أطباقهم“.
جبران من التمرّد إلى الصفاء
وقد تحلّق كلّ من الشاعر اللبناني هنري زغيب والناقد الأدبي فرانشيسكو ميديشي ورئيس لجنة جبران الوطنية السيد طارق شدياق والكاتب اللبناني ألكسندر نجّارحول طاولة نقاش أولى تناولت مسألة المساواة والعدالة الاجتماعية في أعمال جبران الأدبية ومؤلفة كتاب “Alive” جمانة بو فخر الدين والناقد الفني ناجي عبد اللطيف حول طاولة نقاش ثانية سلّطت الضوء على أعماله الفنية. وكان النقاش بإدارة الإعلامية المخضرمة رلى معوّض.
واستعرض زغيب سريعًا حياة جبران والمراحل التي عانى فيها من غياب العدالة الاجتماعية وكيف أثّرت على أعماله كما استشهد بأبرز ما قاله في العدالة الاجتماعية في النصوص العربية. وشدّد زغيب على أنّ العدالة الاجتماعية التي يسعى جبران إليها لا تتكون من فريق ظالم ومن فريق مظلوم وإنما تتطلب تضافر الفئتين معًا.
وعقّب نجّار بالتأكيد أنّ نصوص جبران العربية تميّزت بتمرّد وثورة كبيرين بينما كان قد بلغ مرحلة من الصفاء تزامنت مع وضعه النصوص الإنكليزية. وأضاف أنّ جبران يحاكي المنطقة العربية اليوم في ما ألّفه من نصوص بلغته الأم حيث دعا للتحرر من القيود الدينية والإقطاعية وكان يرفض التطرف والاستبداد. وختم قائلاً إنّ جبران المُصلِح الاجتماعي كان رؤيويًا إذ غالبًا ما ردّد أنّ الدين يمكن أن يكون سببًا للفتنة. من هنا، كانت كتاباته آنية، تهمّ عالمنا العربي في حاضرنا هذا.
في الواقع، يستأثر واحد في المئة من أغنى سكان العالم بنسبة 82 في المئة من ثروته. ومنذ عام 2010، تتزايد ثروات الأغنياء بسرعة تفوق بستّ مرات زيادة أجورِ العمال وما يلحق بذلك من عدم استقرار وحرمان من الحماية الاجتماعية وضمان الشيخوخة ومقوّمات العيش الكريم.
من هنا، تطرّق فرانشيسكو ميديشي إلى شخص جبران الذي اتّسم برفاهية الإحساس بحيث كان يشعر بالذنب من منطلق المسؤولية الجماعية فإن ارتكب أحدهم ظلمًا بحق إنسان آخر، شعر هو بأنّه مشارك في الإثم.
الدعوة إلى تحرير المرأة
وترى الإسكوا أنّ للمرأة حصة كبيرة من الإجحاف الناجم عن اللامساواة في مجالات الحياة الخاصة والعامة، في المنزل وسوق العمل، في الاقتصاد والمجتمعِ والسياسة.
وهنا، شرح طارق شدياق أنّ جبران دعا إلى تحرير المرأة، ليست لأنها مسجونة بل لأنها محتلّة. وهي محتلّة عندما تكون مقتنعة بأن المجتمع على حق بعدم السماح لها بالتعبير عن نفسها. وقال: “لقد كان جبران النهضوي الأول الذي سمح للمرأة بالتعبير عن نفسها وعن أحاسيسها“.
في رسوم جبران
وكان الحكيم قد ختم مداخلته قائلاً: “إنّ اختيارنا الاحتفاء بالعدالة الاجتماعية في أعمال جبران خليل جبران، أحد أهمّ أعلام الأدب المعاصر، هو عودة إلى العدالة كقيمة فكرية وأخلاقية عابرة لحدود الزمان والمكان، ربما لنجد ما يُطمئِننا أنّ غيابها مؤقّت، فكم من مرّة ضيّعت الأمم مسار القيم أو انشغلت عنها فكان أن صوّب الفكر والأدب المسار. وفي تراثنا الفكري والأدبي والإنساني الكثير ممّا يمكن أن ننهل منه لبناء مجتمعات منيعة عصيّة على العواصف“.
وفي حلقة النقاش الثانية، عرضت الباحثة جمانة بو فخر الدين لمؤلَّفها “Alive” الذي يروي سيرة جبران بكلماته ورسومه. وقالت: “لقد جمعنا اقتباسات مختلفة لجبران بعد مطالعة 220 كتابًا ووضعناها بالترتيب الزمني”. من جهته، أشار ناجي عبد اللطيف الذي صمّم غلاف الكتاب إلى السياق التاريخي الذي عاصره جبران فحين كان من الرائج رسم الطبيعة، كان هو يرسم شعوره وإحساسه.
وخُتم اللقاء بكلمة لمدير شعبة التنمية الاجتماعية في الإسكوا فريديريكو نيتو شكر فيها الحاضرين ووزّع شهادات تقدير للمشاركين في إحياء هذا اليوم.
وقد أُعلِن اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية في عام 2007 بمثابة التزام متجدد من المجتمعِ الدولي بقيادة الأمم المتحدة، لا بل إنّ العدل اليوم في صلب منظومة أهداف التنمية المستدامة لعام 2030.
يوم جبران في بشرّي.
في السادس من كانون الثاني، وهو اليوم الذي يصادف ذكرى ولادة جبران ال 135، وبدعوة من لجنة جبران الوطنيّة، زار بعض المؤتمرين متحف جبران في بشرّي، ليطّلعوا على لوحاته المعروضة في أروقته، ويزوروا مدفنه الباقي على حاله في النعش الرصاصي والذي قدم من بوسطن في العام 1931. وقد استقبل رئيس اللجنة وأعضاء هيئتها الإداريّة كلّ من البروفسور هنري زغيب، والدكتورة مي الريحاني، وحافظة متحف تلفير في ولاية جورجيا الأميركيّة السيّدة تانيا سامونز، والسيّدة هيلدا دي وينت مترجمة كتاب النبي الى لغة ال Papiamento في جزيرة كوراساو، والناقد الأدبي الإيطالي فرنشسكو مديتشي مترجم كتاب النبي الى الإيطاليّة، والبريطاني روجر ألن صاحب كتاب خاص بمعلومات لم تنشر من قبل عن جبران، والأميريكي بول تشاندلر صاحب دراسات معمّقة عن أدب جبران، والأوسترالي غلين كليم صاحب فيلم خاص عن جبران، بالإضافة الى العديد من الإعلاميّين الذين رافقوا الوفد الى مسقط رأس جبران. وبعد زيارتهم المتحف، والوقوف خشوعاً أمام مدفن جبران، قدّمت اللجنة لهم هدايا تذكاريّة، هي عبارة عن فيلم خاص بالمتحف وبعض الصور النادرة عن جبران ومتحفه. ثمّ انتقل الجميع الى مائدة لجنة جبران لتناول الغذاء في أوتيل شباط، حيث أعاد رئيس اللجنة الترحيب بهم، وتحدّس البروفسور زغيب بإسمهم شاكراً اللجنة على استضافتها للمنتدين، وتقرّر في التوصيات الأخيرة أن يقام المؤتمر العالمي الرابع في فرنسا وقد بدأ الإستعداد من الآن لهذا الحدث.