spot_img

ذات صلة

جمع

مهرجانات صيف قنات 2024

ككل سنة تتحدى لجنة مهرجانات قنات الأوضاع الصعبة، وتحرص...

مهرجان الطفل في بشري: منصة ترفيهية للأطفال والعائلات

يُعد مهرجان الطفل في بشري ، الذي انطلق قبل...

في عيد القديس شربل… البطريرك الراعي : ” لبنان أرض قداسة وليس أرض حروب ونزاعات وقتل”

توج البطريرك الماروني الكردينال مار بشارة بطرس الراعي احتفالات...

أدخل إلى مغارتي

جوزيف نفاع المطران

يرجع عيد الميلاد ويحمل معه كلّ بركات الطفل الإلهيّ. تكثر احتفالاتنا وتتنوّع، من صلوات وإلى زيارة الأحباب؛ زينة بهيّة تملأ بيوتنا وتغمر قلوبنا بالفرح السماويّ. منذ طفولتي شدّتني تلك المغارة القابعة في زاوية البيت تتلألأ بأضوائها الصغيرة الملوّنة وبأشخاصها المهيبين على صغرهم. لطالما تأملّتهم ونظرت في أعماق أعينهم، علّي أرى ما يختلج في قلب كلّ واحد منهم لرؤيته ذالك الطفل العجيب.

مغارتي كانت مغارة الكنز. أخاف أن ألمس أوراقها وكأنّها سوف تسحرني وتحوّلني ملاكًا صغيرًا يطير في أفيائها. لطالما خيّل إليّ أنّني أسمع الملاك المعلّق في الأعلى وهو ينشد بصوته العذب “قدّوس”. قدّوس أنت أيّها الطفل العجيب. ولطالما حيّرني أشخاص مغارتي: كيف اجتمعوا وهم من أصناف مختلفة؟ ما الذي جمع ملاكًا ورعيانًا، حمارًا وثورًا وملوكًا آتون من بعيد، يقودهم ذلك النجم العجيب؟ تلك الأسئلة كانت أولى تأملات صغري. كانت خطواتي الأولى صوب يسوع. قضيت ساعات وأنا أحلم وأتمنّى لو أنّي كنت معهم. أركض في أرجاء مغارةٍ رأيتها واسعةً وسع الكون، على ضيق حيطانها. وعلمت أنّها أعلى وأعمق من كلّ أسرار الدنيا رغم أنّ رؤوس المجوس كانت محشورة في سقفها.

طالت ساعات جلوسي أمامها إلى أن دخلت فعلاً فيها، لا بل اتّحدت معها بكامل تفاصيلها. وسمعت. سمعت صوت الطفل يناديني: “تعال، أدخل، فها أنت معي”. سألته مستغربًا: “أين يا سيّدي؟”. فقال: “أنت هنا في جميع الأشخاص، كلّهم أنت:

يوم تحس بفقرك وتشعر بالخوف الذي يأرّق ليلك ويمنعك من النوم فانت ذلك الراعي الصغير. ولقد ولدت من أجلك. أرسلت لك ملائكتي ليسلّوا وحشتك بترانيهم السماويّة وليذكّروك أنّ “المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام”. وليقودوك إليّ أنا الوديع والمتواضع القلب الذي ينتظرك في المغارة ليحمل عنك أعباءك. وأذكر أنّ الراعي الصغير كان أوّل من زارني فأفرحني وأوّل من قدّم لي هديّةً. فهو على فقره، تصرّف كأغنى الأغنياء.

ويوم ترى نفسك ضعيف ومنقاد في تيار هذا العالم الهائج. يوم تحسّ أنّك “كخروف يساق الى الذبح”، فاعلم أنك أيضًا ضيف على مغارتي. فأنت ذلك الخروف الواقف إلى جانب مذودي. وأنا أتيت بك إلى هنا لكي أكون لك الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن خرافه. والخراف، على ضعفها، شكّلت شعبي الخاص. وبهم ومعهم أسست أنا مملكتي.

يوم تحسّ بالغربة والوحشة وأنّك شخص غير مفهوم فاعلم أن المجوس أيضًا كانوا غرباء. ولكّني أرسلت نجمي إلى البعيد ليحضرهم من مشارق الأرض، فيكونوا هم أوّل من أصبحوا من أهل بيتي ورفقاء فرحي والمدافعين عنّي أمام طغيان الملك هيرودوس. وكانوا هم أوّل من اعترف بي ملكًا وإلهًا، إذ قدّموا لي ذهبًا ولبانًا.

إذا أرهقتك الأعمال والمشاغل والمسؤوليّات فضاقت بك الدنيا، إعلم أنّ صديقي الأوّل كان ثورًا يفلح الأرض بجدّ. وإذا اعتبرك الناس غير كفوء واتّهموك بالجهل فاعلم أنّ صديقي الثاني كان الحمار. والثور والحمار حميا جسمي الضعيف من برد اليل القارس. ولولاهما لمتّ في مهدي ولما تمكّنت من القيام برسالتي الخلاصيّة.

كلّ له دوره في مغارتي. مهما كنت ومهما كانت أوجاعك أو نواقصك، فإني أعرف كيف أستفيد منها لأحوّلها إلى سبيل خلاص. يكفي أن تكتشف أين موضعك في مغارتي، موضعك الذي يتناسب مع حالتك الآنيّة. إكتشف وتأمّل، وستجد في مغارتي المتواضعة كلّ الإجابات على أسئلتك ومخاوفك وأحزانك. وستجدني أنا أشكرك على مشاركتك الفعّالة بتكوين “مغارتي”.

ولكن اعلم أيضًا أن مغارتيّ سريّة هي. لا تريدك أن تبقى واقفًاعلى بابها مع الرعيان والمجوس أو مع الحيوانات. بل هي تدعوك أيضًا للدخول إلى العمق. تدعوك أن تقبل سرّ تجسّدي كسرّ خلاصيّ لك. تدعوك أوّلاً لتصبح يوسف. ذاك الرجل الصالح الذي بالرغم من كلّ ضعفه ومخاوفه استسلم كليًّا لأوامر أبي. قبِل أن يتحمّل مسؤوليّتي دون أن يفهم أيّ شيء. لأنّه يعلم علم اليقين أنّ الله صالح ولا يخرج عنه سوى الصلاح وما فيه الخير للإنسان. وأنت أيضًا ملاكي الجديد تحمل البشرى إلى كلّ من تلتقيه في الطريق. فأعلن له بحماسة الملائكة خبر ولادتي وخبر خلاصه.

ويا حبّذا لو كنت تعي أنّك أيضًا مدعوّ لتصبح “مريم”. فأنا أسكن في أحشائك كلّ يوم بواسطة القربان، كما سكنت في أحشائها تسعة أشهر. أدخل فيك وأنتظر أن تلدني للعالم. ولكّنك مرات كثيرة “تُجهضني”، إذ تنساني وتتلهّى عنّي بمشاغلك الكثيرة. فلا أنا أولد فيك ولا أنت تلدني وتوصلني إلى أحد. ولكنّي لم ولن أفقد الأـمل. وأنا أنتظر هذا العام أن أولد في مغارة قلبك وأن تصبح أنت “مريم الجديدة” وأن تحملني إلى عالمك الخاص.

يا بنيّ، إيّاك أن تجعل مغارتي مجرّد كومة ورق وجفصين. قف أمامها وتأمّل. إنّها صورة عنك وعن قلبك. أنا أعلم أنّك تحبّني. لذلك أتيت إليك. ولكنّي أنتظر منك هذا العام “أن تدخل في مغارتي” وأن لا تبقى واقفًا في الخرج وتنظر إليّ من بعيد. وكما دعوتك أنا أن تدخل مغارتي، كما أنت وبكلّ حالات ضعفك، أدعوني أنت أيضًا أن أخرج من مغارتي وأن أدخل عالمك الخاص فنتّحد سويًّا ونكوّن الملكوت. فيكون بذلك هذا اليوم يوم ميلادي الفعليّ”.

اليوم يولد يسوع لا في مغارة من ورق وجفصين بل في قلب كلّ واحد منّا، قبِل أن يكون “مريميًّا”. وهو بدوره يُدخلنا إلى “أحشاء” مغارته. يُدخلنا رعيان خائفون، خراف ضعفاء، مجوس غرباء، ثور منهوك وحمار منبوذ. ويلدنا ملائكة البشارة ورجال إيمان كيوسف، وحملة للكلمة كمريم. فلتكن صلاتنا وتأمّلنا أمام المغارة زمن ولادة جديدة وتحوّل. فلتكن مناسبة أن نضع بين يدي الطفل الإلهيّ كلّ أثقالنا. وأن نأخذ من يديه هداياه، لا ذهبًا ولبانًا بل نعمةً وخلاصًا يفتحان لنا أبواب المكلوت.

spot_imgspot_img