هذا الوجه المحفور في الصخر يرقب كل ما يجري من حوله. كل الناس ذاهبة إليه، من حوله الكثير من الصخب، وهو هادئ يسدل عينيه في ما يشبه الإغفاءة لكنه ليس بنائم، “أنا حي مثلك وأنا واقف الآن الى جانبك فأغمض عينيك والتفت تراني أمامك”.
هذه ليست بضع كلمات أوصى بها جبران خليل جبران لتُحفر فوق قبره، هذه حقيقة جبران في بشري، تراه هناك في كل التفاصيل وتخاف، منذ رحيله من خمسة وثمانين عاما، وعبقري الفكر والكلمة ما زال يجول في الأرجاء، ينام في سريره، يقرأ في كتبه، يكتب بقلمه إياه والنظارات ترمقه تطالبه بالمزيد من الإبداع.
نادرون المبدعون الذين يكملون الحياة من بعد الرحيل، هو يفعل، كتبه تفعل، حضوره الغريب هناك يفعل، وها هو الآن وبكل قواه والفرح القليل المترسّب فيه، يشارك ليلته المنتظرة في مهرجانات الأرز الدولية، من كان ليصدّق أنه سيفعل؟ إنه سيغنّي حضوره الصاخب في أرز الرب، وفي الإنسان في العالم، من كان ليتوقّع أنه هو الآخر يشبك الأيادي ع الدبكة، وليش لأ؟ ألم يقل بنفسه “أبناء لبناني هم شعراء الفطرة الذين يسكبون أرواحهم في كؤوس جديدة وينشدون العتابا والمعنّى والزجل”؟
قبل الناس واللجنة والفنانين، جبران خليل جبران يرحّب، ليس في الليلة الأولى وحسب، ليس رفيقاً لماجدة الرومي وحسب ونياله على رفقة مماثلة، ولكن يقف العبقري على باب غابته، يراقب بدقة وفضول الداخلين إليها، هذا ليس مكاناً عابراً في الحياة، ولا هي غابة عادية، فهنا موقع القلب تماما إذ “إن القلب بعواطفه المتشبّعة يماثل الأرزة بأغصانها المتفرقة، فإذا ما فقدت شجرة الأرز غصنا قويا تتألم ولكنها لا تموت بل تحوّل قواها الحيوية إلى الغصن المجاور لينمو ويتعالى ويملأ بفروعه مكان الغصن المقطوع” يقول للناس. قِطَع قِطَع من قلبه تتناثر في هذا الليل المضيء، ذكره ليس تكريما له، ذكره تكريم للإنسان في كل مكان، للبنان، لأهل الأرز وعلمه ونوره، لمهرجان الأرز الذي عبر منذ خمسين عاما في الغابة إياها، ووقفت هنا زميلة خالدة للأرزات اسمها فيروز، يومذاك وقف جبران قربها وغنيا معاً “أعطني الناي وغنِّ فالغنا سر الوجود وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود”، ومذ ذاك اليوم اتخذ جبران الغابة مسكنا له دون القصور…
يسكن جبران في تفاصيل المهرجان ليلة بعد ليلة، عابر حب يعصف عبقا في كلمة النائب ستريدا جعجع التي ستترجم فوراً الى الإنكليزية، أي خطاب أجمل من أن يزيّن بشجن فيلسوف فنان لبناني مماثل؟ يرسم جبران حضوره لوحة استثنائية في مهرجان حوّل الضوء الى خيالات الأحلام، هي أحلام لا تطالها يد إنما يلمسها قلب ارتجف عندما لامس الشعاع أول نظرة فكان عرس الدهشة.
في ليلة الماجدة يعود حليم الرومي الى جانب ابنته ليغنيا معاً أنشودة من إبداعاته، لا تنسى تلك المرأة أباها ولا تريد، مشوار النجوم لم يجعلها يوما نجمة لا تطال، إنما عمّق حضورها في إنسانيتها وطفولتها لذلك هي ماجدة الرومي، ولذلك تغني nous sommes les amis du monde وأغنية الحرية التي تتوجه بها تحديداً كإهداء لمن جعلوا من السجون معابد حرية، ومن الأغلال نشيد الاستقلال والكرامة. هو دائماً لبنان الحاضر في الوجدان، ثمة من يقاتل عنّا ويحمينا عند الحدود المحفوفة بالخطر، ونحن من قلب الحدود نحمي وجودنا بالحب والثقافة والغناء.
لن ينسى عاصي الحلاني أن يفتتح ليله المشتعل دبكة بأغنية “لبناني” ولم تجد نانسي عجرم أغنية أجمل من “بتتلج الدني”، لتذهب مع الصورة والصوت الى حيث منحب لبنان تـ”تخلص الدني”، وكأنه مهرجان خصص لفائض الحب ذاك وعلّ الترجمة لا تكون فقط أشعاراً وقصائد، لذلك هو مهرجان محرّض على الإنتماء، هنا في قلب الأرز يصبح التحريض خطيراً، هو الخطر الوحيد المطلوب حين يكون المستهدَف قلب الوطن، المزيد من ذاك الحب، المزيد من التملّك لنبقى في قلب الوطن وليبقى لنا هذا الحب غير مجتزأ…
نقول الكثير من حكي الشعر ما هيك؟ ولكن ما نفعل والمكان لا يوحي بغير ذلك، والمهرجان يأخذنا الى أبعد من حدود الغناء والرقص بقليل، “الأرز بيليق فيه عمل مسرحي كبير مهم متل أوبريت “غابة الأرز” لـ قدمناها مع الست فيروز من خمسين سنة بالأرز” يقول الفنان الكبير إيلي شويري الذي يعتبر مشاركة ماجدة الرومي إضافة كبيرة لليالي المهرجان إضافة الى فرقة كركلا “وكيف بتلاقي البرنامج هالسنة استاذنا”؟ يسارع الى الإجابة: “كل الموجودين خير وبركة أكيد، عم نحكي عن ماجدة الرومي، ست الستات فنانة كبيرة كبيرة وبيلبقلا الأرز والعز أكيد إنما لـ عم اقصدو إنو الفنانين الكبار بيقدروا يغنوا في أماكن كبيرة متل البيال وما شابه، لكن مكان كالأرز بعيد وله رمزيته الوطنية الكبيرة، يليق به أن نخصّه بمسرحيات كل سنة، أو بأوبريت كما كنا نفعل ومتل لـ رح يقدموه فرقة كركلا مثلاً لـ كانت خصّت بعلبك باستعراض أنا شاركت به، وطبعا للأرز استعراض آخر”. بفخر كبير يحكي الفنان الكبير عن الأرز، يستذكر بعضاً من حكاياته هناك أيام المهرجانات، كل ما يريده أن يبقى الأرز شامخاً ووطن الأرز ملتفاً سياجاً حول أرزاته وناسه “أرزنا قيمنا وهالمهرجان إضافة كبيرة على لايحة مهرجانات لبنان، عم نحكي عن الأرز وبس نقول أرز يعني لبنان وربنا يكون معكن”.
“لبناني أنا هو تذكارات تعيد على مسمعي أهازيج الفتيات في الليالي المقمرة، وأغاني الصبايا بين البيادر والمعاصر… لبناني هو عاطفة مشتعلة وكلمة علوية تهمسها الأرض في أذن الفضاء” يقول المضيف جبران خليل جبران، كلماته تدوي في المكان وتترجم فوريا الى الإنكليزية مع كلمة الافتتاح، يحل جبران ضيفا مباشراً على الهواء عبر شاشة الـ mtv وأثير إذاعة لبنان الحر، من قال إنه رحل منذ خمسة وثمانين عاماً؟
يلثم جبران الورد الأحمر الذي سيوزعه شباب وصبايا “القوات اللبنانية”على الحضور في ليلة المهرجان الأخيرة، وعلى وقع خبطة أقدام فرقة كركلا “كان يا ما كان”، يدبك بقلبه ونظراته التائهة في شجن عكّر صفاءه ذاك الفرح الطارئ، لن تكون أوبريت كركلا الراقصة لفرقة عالمية وحسب، هي صورة عن وطن حاضر في كل الإبداع، في كل الثقافات، صورة عن لبنان جبران ذاك الخاص به، المتفرّد بقلبه الحقيقي بروحه الأخاذة، لبنانه ذاك الممزوج بأهازيج الصبايا ووشوشات الليل وعشاقه، بكوفية الفلاح البيضاء المعطّرة بعرق المواسم، لبنانه وقمح البيادر والميجانا حين تصبح وجع الحنين القاهر ذاك، وجع الشوق الى ضيعة خلابة تسكن الشريان وترفض الهروب رغم كل ذاك الدجل العنيف، يبحث عنها جبران في أنحاء نغمات مهرجان الأرز.
يا الله شو حلو هالبلد، حلوة ضيعتي حين تحضر بكل قوتها في مهرجان يلبس الأرز عباءته، حلو وطني حين يختصره مهرجان قد لا يقدّم كل ما نريده من فنون، لا نرى فيه فيروز ولا وديع الصافي ولا صباح ولا زكي ناصيف، حسبنا أن يستحضرهم هم الحاضرون دائماً في وجدان وطن لن ينسى مهما عبر زمن، إنه وطن الجبل والضيعة والكرم والمواسم والأرض المتقلبة تحت معول فلاح حوّل التراب الى شجرة، والشجرة صارت أغنية في أرجاء غابة يتجوّل بين عبقها جبران خليل جبران وإذ به يصير مقدّم الحفل ومضيفه وجمهوره وكل الحضور له ومنه، من هم فوق في المهرجان يعرفون ما نقول، وبعد؟ وبتضلّك عالي ومعمّر…
فيرا بومنصف