أيّها الإخوة والأخوات المباركون،
أتمنّى لكم فصحاً مباركاً طالباً من الربّ المنتصر على الموت أن يُعيننا لكي ننتصر، بمعونته، على كلّ شرّ يُبعدنا عن العيش في حضرته، وعن الحقّ، والخير، وعن أخينا الانسان، وأن يمنّ عليكم وعلى بلادنا بالأمن والسلام، ويعيد لدولتنا حيويّتها عبر إنتخابات نزيهة تأتينا برئيس للجمهوريّة بعد طول انتظار، ومن ثمّ بنوّاب، ومجالس بلديّة، ومخاتير، يستطيعون أن يقودوا بلادنا الحبيبة إلى ميناء السلام المنشود، وربوع الإزدهار.
أعلن قداسة البابا فرنسيس تكريس سنة مقدّسة للرحمة تبدأ من 8 كانون الأول 2015، في عيد الحبل بلا دنس، وتنتهي في 20 تشرين الثاني 2016، في عيد يسوع الملك، وهي سنة يوبيليّة مقدّسة غير إعتيادية، طلب قداسته منّا أن نتأمّل خلالها برحمة الله الآب الرحوم، وأن “نكون رحماء كما أنّ الله أبانا رحيم” (لوقا 6: 36)، فنحيا الرحمة على مثال الآب الذي يسألنا ألاّ ندين، وألاّ نُقاضي، بل أن نسامح ونهب المحبّة والمغفرة بدون حساب (لوقا 6: 37- 38)، ونقوم بأعمال رحمة جسديّة وروحيّة تجاه إخوتنا المتألّمين، والفقراء، والمرضى، والمشرّدين، والمسجونين (متى 25: 31- 46)، وقد ذكّر غبطة أبينا السيّد البطريرك بمثل هذه الأعمال في رسالة الصوم لهذه السنة بعنوان: “الصوم الكبير ويوبيل سنة الرحمة”.
أوّلاً- الرحمة مع الذات
إنّ التأمّل بكلمة الله الموجودة في الكتاب المقدّس، والسير في دروب الحجّ إلى المزارات المقدّسة، وممارسة الأسرار، وخصوصاً سرَّي التوبة والإفخارستيّا، وتخصيص وقت من يومنا للصلاة، وقراءة الكتب المقدّسة، هي وسائل تساعدنا لنعود إلى ذواتنا، ونُنير طريق مسيرتنا الإيمانيّة المتّجهة نحو ملكوت السماوات. وقد منح قداسة البابا الغفران الكامل لكلّ مؤمن يدخل باب الرحمة، ويعترف بخطاياه، ويتناول جسد الربّ بإيمان. وقد كرّسنا في منطقتنا أبواب أربع كنائس، وهي: كنيسة دير مار شربل- بقاعكفرا، كنيسة دير مار أنطونيوس- قزحيّا، كنيسة دير سيّدة قنّوبين، وكنيسة دير مار اليشاع القديم، لتكون أبواب الرحمة، وتمنح الغفران الكامل لكلّ من يعبرها، ويتقدّم من سرّي التوبة والقربان المقدّس. هذه الأبواب هي علامات تشير إلى أهميّة العودة إلى ذاتنا الإيمانيّة، وتذكّرنا بأنّها غذّت نفوس آبائنا وأمّهاتنا القدّيسين الذين عبروها، واتّكلوا على الله بثقة كاملة، فصنعوا لنا تاريخاً من القداسة، كان الزّيت الذي أضاء حياتهم إلى الأبد، وأصبح لنا مصدر إعتزاز أينما حللنا في ربوع هذه الأرض.
ثانياً- الرحمة مع الآخر
طلب قداسة البابا من كلّ مؤمن أن يعتبر هذه السنة في حياته سنة راعويّة بإمتياز، يخرج خلالها من ذاته الإيمانيّة إلى الآخر المحتاج لمساعدته إيمانيّاً، واقتصاديّاً، وتربويّاً، وثقافيّاً… طلب أن يكون إنساننا هذه السنة متجهاً بنوعٍ خاص نحو من ينتظر منّا نظرة أخوّة حقيقيّة، ندخل من خلالها معه في نظرة المسيح الذي حنّ على الخاطئة والزانية، وأقام المائت، وشفى المخلّع والأعمى، وردّ إلى الإنسان الضعيف والمريض كرامته الإيمانيّة، والإنسانيّة، والجسديّة. نظرتنا إلى الآخر في سنة الرحمة يجب أن تردّ له كرامته وعزّة نفسه، وتجعله يشعر ببنوّته للآب، وبأنّه أخ لنا كريم، يفرح برؤية ذاته مُحاطاً بأفضل عناية. يجب أن تساعدنا نظرتنا إلى الآخر لكي نحاوره بلغة الحياة التي جعلته على صورة الله ومثاله، وميّزته عن كلّ الكائنات. سنة الرّحمة، تُحتّم علينا أن نأخذ نحن المبادرة وننطلق لكي نتصالح مع من يُبغضنا، ونُبارك من يشتمنا، ونقترب ممّن يبتعد عنّا؛ تُحتّم علينا أن نفهم الآخرين، فلا نُحمّلهم أكثر ما بوسعهم تحمّله، وأن نزرع بذور الإيمان في بيوتنا، وأحيائنا، وقُرانا، ومُدننا؛ تُحتّم علينا أن نُثمِّر ما يعطينا الله من نِعم، فعِيالنا نعمة سماويّة من لدنه تعالى، وأولادنا ثمار برّ وقداسة، إنّهم رحمة الله لنا بامتياز، فلا نخافنّ من تربية أولادنا تربية مسيحيّة صالحة، ولو كانت متعبة، ولا من المحافظة على صداقات معيّنة ولو كانت مُكلفة، ولا من التعاون مع الآخرين ولو كان في ذلك أحياناً صعوبات.
بارككم الله جميعاً، وأعطانا قوّة لكي نلتزم بمتطلّبات سنة الرحمة المقدّسة هذه، فنُجسّد حضور المسيح القائم من بين الأموات أينما حللنا، بروح التوبة، والتجدّد، والإلتزام بخدمة المحبّة والرحمة، ونسير على نهج آبائنا الأبرار والقدّيسين الّذين تسلّحوا بإيمانهم الكبير، فثبتوا عليه وحفظوه وديعةً غالية لنا من بعدهم.
انّني أتمنّى للعالم الخير، والسلام، ولشرقنا العزيز الخلاص، وللبناننا الإستقرار، ولأبناء رعايانا، وعائلاتنا، وشبيبتنا الإيمان المتجذّر الفاعل، وأردّد معكم جميعاً بلا انقطاع، وبرجاء الإنسان المؤمن: “المسيح قام، حقّاً قام”.
الدّيمان، الأحد 13 آذار 2016
المطران مارون العمّار
النائب البطريركي العام على منطقة الجبّة