بين خليج اسكندرون والعريش يمتد ساحل هو منذ بدء التاريخ وجه آسيا المتطلع الى بقية العالم . وعلى الساحل مدن هي منارات الحضارات، وفوق هذه المدن جبلٌ هو هامة المشرق، وعلى هذا الجبل ارز هو بطريرك الشجر او سيد الطبيعة .
تاريخ الموارنة مرتبط بهذا الساحل، بهذه المدن، بهذا الجبل، بهذا الارز . من الساحل كانت لهم تلبية الانصراف الى البعيد، ومن المدن كانت لهم علاقة المدنيات الاصلية، ومن الجبل عناد الطبيعة وشدة معشرها، ومن الارز مناعة الروح ضد فساد الجذوع .
فهم اذا ً، حضاريا ً ابناء المدنيات الثابتة على هذا السواحل والجبال .اما روحيا ً، فهم ينتمون اولا ً الى القدس طبعا ً، لانها مقام المسيح، والى انطاكية ثانيا ً، لان المسيحية ظهرت فيها كجماعة ٍ مميزة، والى روما ثالثا ً، لان في روما، اختار بطرس كرسيِّه، فصلب ورأسه الى اسفل، اتضاعا ً منه وافتداءً بمعلمه. وسيكون لهم هنا، نصيبه، بالاقتداء في المعلم والرسول، يصلبون على جبل ٍ ورأسهم عال ٍ، كالمسيح على الجلجلة، ويصلبون في واد ٍ ورأسهم الى اسفل كبطرس في روما . فهم اذا ً، ليس في الدعم فقط، بل قي الحقيقة ايضا ً، حملة تراث ٍ واحد ٍ روحيّ، وآخر حضاري ّ. ربطا معا ً في حزمة ٍ واحدة ٍ على ظهر هذا الشعب الذي خرج حاملاً خشبتي صليبه في مراحل التاريخ. فما يصل الى جلجلة ٍ ويصلب عليها، وُينزَّلُ الى القبر والى الجحيم، حتى يقوم بعد صلبه وقبره، يحمل الصليب في دورة ٍ ثانية. يتقاذفون بين هيرودوس وقيافا وبيلاطس ورعاع الشعوب وقطـّاع الطرق .
لماذا اختار الموارنة لبنان ؟
ولم يكن لبنان منذ ما قدموا اليه غير مسرح لهذه الالام. يمثــّلون عليه مأساة المسيح التي لمّا تنتهي فصولها. فكلّ قرية ٍ من قراه كانت لهم مرتفع جلجلة. وكلّ واد ٍ من اوديته كان لهم مهبطا ً للقبر والجحيم .
أما لماذا اختار هؤلاء الموارنة لبنان ؟ فلم يرحلوا عنه الى غيره كما صنع كثيرين ؟ او لماذا لم يتخلـّوا كما تخلـّى كثيرون عن هذه القصة الروحية والحضارية التي تطـّوعوا لاجلها بكل هذا العناد والجهاد ؟
ثم لماذا هم اليوم يظهرون وكأنـّهم اشدّ الناس عصبية لهذه الارض حتى ليبدو للغير من بعدهم انهم اكثر التصاقا ً بها ؟ لماذا هذا الشذوذ وهذا الشّواذ عن قواعد المشرق كلها ؟ أكـُلـِّفوا بهاذ ؟ ام تكلـَّفوا ؟ ممن ؟ ولما ؟ والام ؟
هذه أسئلة ليس من السهل الاجابة عليها بسهولة وإيجاز . انما لا بد من الجواب ولن يصح جواب الا بالعودة الى استيضاح معالم الماضي , قديمه وحديثه .
فالموارنة كما ردّدنا غير مرة، لا يمكن ان يدركوا أنفسهم ويتعرفوا الى قضيتهم ويعرفوا رسالتهم إلا ّ بالعودة أولا الى اصولهم الروحية. كما لن يستطيع أحد ٌ ادراك حقيقة هذه الجماعة الا انطلاقا من تلك الاصول …
الموارنة جماعة ولدوا في انطاكية، لا من حيث أن انطاكية هي مدينة بيزنطية او سورية او اليوم تركية، بل من حيث هي أولا ً مساحة روحية. لقد ولدوا إذا ً من روحانيتها، وفي هذه الروحانية سكنوا، ثم اعتصموا في لبنان لا من حيث هو ارضٌ او دولة ٌ او وطنٌ او قومية، بل من حيث هو أولا ً مساحة حـرّية .
واذ نقول اليوم انطاكية وسائر المشرق، لا نزال نذكـّر بأن هذا المشرق، كله المتربّع بين البحر والنهرين، وبين جبال قورش وصحراء الجزيرة، هذا المشرق هو واحد، عاصمته الروحية انطاكية. وكلـّنا هناك وجدنا إنما ولدنا هناك، ثم تفرَّقنا وتبدَّدنا .
كان الانشقاق اول مرّة في المجمع الافسُسي عام 431 ، ثم كان الانشقاق الثاني، يوم انفصل في مجمع خلقيدونيا عام 451…
على كل حال، وسط هذا الاضطراب والتمزّق، كانت علاقة انطاكية بلبنان متينة ٌ مُحكمة العـُرى … لم تكن العقيدة وحدها تجمع انطاكية بلبنان، بل اللـّغة المشتركة، فهي سريانية في الارياف، عند العامة، ويونانية في المدن عند المضطلعين بثقافة اوسع .
وعلاقات انطاكية بلبنان، قائمة ايضا على المستوى الروحي، منذ بدء المسيحية، فبطرس الرسول نفسه، رئيس الكنيسة، أسقف إنطاكية، هو نفسه اقام أساقفة ً لبيروت، وجبيل وطرابلس. ومن أعظم الصدف ان أول أسقف على طرابلس كان اسمه مارون، ولما يمضي على صعود المسيح بضع سنوات.
هذا التبادل الديني لم ينقطع مدة القرون المسيحية الستة الاولى. فكم من زاهد ٍ من لبنان الى شمال الانطاكي، وكم من قادم ٍ من هناك الى لبنان. فهذا الناسك ابراهيم، معاصر مار مارون، يأتي من قورش، شمالي حلب، فيدخل جوار الغينة على نهر ادونيس، ويهدي الناس من عبادة الزهرة الى عبادة المسيح، ويبقى نهر ابراهيم حاملا ً لليوم اسم ابراهيم القورشي
وهؤلاء تلامذة مارسمعان العامودي يبشرون جبة بشري . وهذا الاسقفابراسموس من انطاكية يتخلى عن كرسيه ويتعبد في إحدى المغاور اللبنانية سبع سنين، قبل ان يذهب فيستشهد في ايطاليا. وهذا راهب لورنسي من حدث الجبة، وهذا آخر، من البلدة نفسها اسمه حلفى، يلتحق بدير فدعوس، في شمال سوريا…
كذا الاتصال الفكري مستمرٌّ بين انطاكية والقسطنطينية عاصمة البزنطيين الجديدة، وبين لبنان. فبيروت منارة الشرع الروماني، يتقاطر اليها من كل مدن الامبراطورية واقاليمها جميع من يطمحون الى ثقافة عالية، والى احتلال الوظائف العليا في الادارة والقضاء. لقد احتكرت بيروت معرفة القانون، فاصبحت ام الشرائع… وبيروت ايضا ً هي التي ضمّت اكابر المفكرين والقديسين وعلماء اللاهوت . فمنها تخـّرج ساوير الانطاكي الشهير مضطهد الموارنة، ومنها غريغوريوس العجائبي، من أعاظم اللاهوتيين …
ولكن بيروت هذه، هدّمها الزلزال الهائل سنة ،555 فقتل منها ثلاثين الفا ً تحت الرّدم، كما دمـّر مدن الساحل الفينيقي : جبيل والبترون وانفه وطرابلس، وامتد َّ إعصاره الرهيب الى جوار انطاكية، فعم ّ الدمار. ولم تكن هذه الخلخلة الكبرى في الطبيعة سوى مقدمة لسلسلة الكوارث التاريخية، التي ستصاب بها انطاكية ومدنها الاسقفية وبخاصة اللبنانية منها. فلم تكن فتنة من الناس، ولا محنة من الدهر، الا واصابت انطاكية، قصاصا ً للبعض من بنيها وامتحانا ً للاخرين .
فها هي حرب الفرس والروم، تدور حوالي قرن … وسقطت الفرس في قبضة الفاتحين، وأذيق اهلها التعذيب، وأخذ عود الصليب، ثم كان ان استقام ل هرقل البيزنطي ان يثار لملكه فيقوم بحملة واسعة قادته الى بلاد فارس، فـدحر عـدّوه وإسترجع العود المقدس …
ولم يمض قرن ٌ على الفتح العربي الا وتفككت رباطات انطاكية وتلاشت رويدا ً رويدا ً، وغاب وجهها وغاب نورها. قسم من بني انطاكية، بين النهرين، غاب وراء الفرات ودجلة حتى الهند والصين، ولم يسلم منه اليوم الا بقايا، بعدما قام بأعاجيب مذهلة في اعمال الفكر وانتاج الرسالة . وقسم ٌ آخر من بنيها، في فينيقية الساحلية، انطلق صوب الغرب، فاسس مستعمرات من مدن ايطاليا واسبانيا وفرنسا، فانطبع الغرب بطابع منهم لا يمحى، كما تشهد بذلك لليوم عمارات الهندسة الغوطية واساليب النغم الغريغوري، وصور المصلوب على المخطوطات والاقمشة، وروحانية الرهبانيات اللاتينية الاولى.
وقسم ثالث من بني انطاكية، من اهل المدن، استسلم لارادة الخلفاء، من بني أميّة وبني العباس، فاصبح مرتهنا ً بتقلبات أمزجة الحاكمين وأميالهم. فهم يـُقيمون ويـُنزلون البطاركة عن كراسيهم، واذا خطر ببال احد ٍ من هؤلاء ان يـدّعي شيئا ً من الاستقلالية، قـُطع لسانه او جـُدع أنفه، ليعرف هو ويعرف اصحابه صغارة شأنه وحقارة وضعه .
والقسم الآخر الاقل عددا ً والاكثر كدّا ً، هو الفريق الذي قامت عليه المارونية. هؤلاء رفضوا حتمية الامور الواقعة، فلم يقبلوا اولا ً بشغور كرسي انطاكية، وفيها رسالتها وولايتها. وهم رفضوا ثانيا ً ان يرتهن مصيرها الى امبراطور او خلفية. ورفضوا ثالثا ً ان تـُدكّ قراها، فلا تذكر اسماؤها من بعد. ورفضوا ايضا ً ان تتعرض عقيدتها الخلقيدونية الجامعة لآراء الملوك الذين وَصفوا نفسهم بانهم مستقيموا الرأي، وكانوا اكثر الناس اعوجاجا ً في الرأي، وتقلـُّبا ً في العقيدة. ثم ايضا ً رفضوا ان يرحلوا نهائيا ً عن ارض انطاكية ولو اصبحت خرابا ..
ولذا، فهؤلاء الموارنة، أقاموالهم بطريركا ً بدلا ً عن ضائع، دون أن يستمزجوا مزاج أحد ٍ من الحكام او الولاة العناة. ثم حملوا أسماء قراها الى جبل لبنان، فأعادوا فيه خلق الضياع التي كانت ضياعهم في سوريا الثانية. فالقرى التي ماتت وضاعت أسماؤها هناك، الا من حواشي الآثار، عاشت في جبال لبنان.واذا كانوا اختاروا فينيقية لبنان، فلأن فينيقية كانت أولى أقاليم انطاكية .
وهكذا بدت الهجرة المارونية ممتدة على قرنين أو ثلاث، ولا نعرف عنها سوى أنه كل مرة كان ينطفىء اسم على العاصي الانطاكي، يضيء الاسم نفسه على الجبال أو الاودية اللبنانية. وأسباب هذا الانتقال عديدة، لم يكن السبب العقائدي هو الاوجه فيها، السبب العقائدي هو ثانوي. ولم يكن السبب السياسي هو الاول والاوجه. أجل إن بيزنطية، الغريبة الاطوار، ساهمت أكثر من غيرها، بدك ّ قواعد الكنيسة الانطاكية، وتبديد شمل بنيها. فهي التي باعت مردة لبنان، لقاء بعض أكياسمن الدراهم، وبعض خيولٍ وحمير ٍ. فعرّضت بذلك الموارنة الاوّلين، للتّلف والابادة. وبيزنطية هي نفسها ستتفق فيما بعد مع هشام بن عبد الملك، فيبعث هذا بجنوده وعلى رأسهم بطريرك هو صنيعه…. الى دير مار مارون ليعذب الرهبان ويروّع السكان …. حتى كانت النهاية في أواخر القرن التاسع أو بدء القرن العاشر، بخراب دير مار مارون على يد السلطان .
انتقال البطريركية الى لبنان نهائيا ً
يختبر من بعض تواريخ سريانية قديمة، أنه في سنة 939انتقل من انطاكية البطريرك يوحنا، وجاء الى جبل لبنان. ولما قرب أجله، جمع جميع كهنة البلد، وأقام لهم بطريرك آخرباسمهمن قرية دملصا- جبيل . ان الاسباب التي قادت البطاركة الى لبنان عديدة، منها الروابط التي ذكرناها بين انطاكية ولبنان. وثمة سبب آخر،هو أن لبنان كان من قبلهم مأوى النساك والزهاد مذ القديم، وكأنما كل هذه الاطر الطبيعية المحفورة في الصخور من مغاور وصوامع، في قاديشا وقنوبين وغيرها، قد هيّأها الله في الاودية والجبال اللبنانية لتستقبل جماعة ً لم يكن العالم يقتبلهم، لانهم في أصل هم الذين رزلوا العالم وأباطيله… وكل مرة تخلّوا عن التمرس بتضحياتهم، فقدوا مبررات الاقامة ومسوّغات الحياة. كل مرة أخذوا من الارض أكثر مما أعطوا، أوشكوا أن يخسروا ألاصل والفائدة. وكل مرة تناسوا المدى الانطاكي الواسع، ضاع مجالهم، فتقوقعوا واختنقوا . إن مداهم الحقيقي، إن وطنهم الحقيقي، هو رسالتهم التي تمتد الى أبعد من التخوم اللبنانية، لانها رسالة إنطاكية، وما لإنطاكية، إلا ومرتبطة ٌأبدا ً بسائر المشرق .