أمامكم ، يا مناضلي القوات اللبنانية الأبطال ، أقف وانحني باعجاب واجلال واحترام . أما الذين استشهدوا في فترة الحرب فستحفر أسماؤهم بأحرف من نور في تاريخ لبنان وفي قلب كل لبناني . ذلك لأن قضية الحرية والانسان التي استشهدوا من أجلها قد تكون أقدس قضية في العالم . ولأننا كلنا مائتون ، فمن يمت في سبيل هذه القضية خير ممّن يبقى حيا” بانتظار الموت .
لقد صنعتم التاريخ ، ايها المناضلون ، كما لم يصنعه أحد في لبنان منذ أجيال وقرون . انّ صانعي التاريخ في التاريخ قليلون ، وما صنعتموه أنتم من بطولات وملاحم سيذكره التاريخ لكم ولقادتكم ، السياسيين والعسكريين .
ومع أنكم أنتم ، يوم كنتم في ساحات القتال ، في طليعة المعركة ، فكلّنا كنا في هذه الحرب محاربين ، كلّ في اطار اختصاصه وكفايته وقدرته .
لماذا حاربنا سابقا” ولماذا نناضل اليوم ؟
أهم شيئ اطلاقا” في أي نضال أن يعي الشعب وقادته ومحاربوه وعيا” تاما” ، ويتأكدوا في غير وهم ، لماذا يناضلون ، وأن يحفظوا هذين الوعي والتأكد ويستعيدوهما عشر مرات كل يوم .
بالطبع ، حاربنا أولا” ، لأن الحرب فرضت علينا . فمن سمع أو قرأ في التاريخ كله ، منذ آدم حتى اليوم ، انّ لبنان اعتدى على أحد ، أو هاجما ً أحد ، أو تآمر على أحد . نحن الذين اعتدي علينا ، نحن الذين هوجمنا ، نحن الذين تآمر غيرنا علينا لتغيير قيمنا أو افنائها . لذلك حاربنا دفاعا” عن النفس ، لأنّ كل شيئ يدافع عن نفسه بوسائله الخاصة ، وحتى الصخرة تدافع عن نفسها بصلابتها وصمودها ، فكم بالحرّي الانسان .
بالطبع ، حاربنا ثانيا” ، لأنّ الدولة اللبنانية انهارت بكامل أجهزتها ، فهبّ الشعب اللبناني الأعزل بشتى وسائله للدفاع عن الدولة . هذه الهبّة الشعبية العفوية البطولية من أروع ما حدث ، ليس في تاريخ لبنان فحسب ، بل في تاريخ أيّ شعب .
بالطبع ، حاربنا ثالثا” ، لأن المسألة كانت ، ليس فقط من يحكم لبنان ، بل من يملك لبنان ، اللبنانيون أم غير اللبنانيين . المسألة ، اذن ، مسألة احتلال أرض وبيوت ومرافق .
بالطبع ، حاربنا رابعا” ، لأن عشرات التيارات والعوامل والمصالح هبّت علينا من رياح الأرض الأربع ، واستغلت ساحتنا السائبة ، إما للاستفادة ذاتيا” ما أمكن ، أو لتسديد حساباتها بعضها مع بعض .هذا قدرنا الأبدي المأساوي ، في لبنان وفي الشرق الأدنى . حاربنا لأنّ الشرق الأدنى وسط العالم ولأننا نحن قلب هذا الوسط – قلبه جغرافيا” وكيانيا” . ففي القلب تتراكم الأوجاع والعلل . والذي مكنّه الله في التاريخ من التعالي فوق هذا الصخب والصمود في وجهه والتغلب عليه ، أعطى الوجود البشري ما لم يعطه أحد غيره. هذا هو سرّ النبوة والأنبياء .
بالطبع ، حاربنا خامسا” ، لأننا أحد الشعوب التي تناضل أولا” من أجل مجرّد البقاء ، وثانيا” بقصد تعيين مركزها وفعلها ونوع عطائها في النظام الكلي الذي يتحتم تاريخيا” ان ينجلي يوما” . والأمر المهم الحاسم ان نعي تماما” ، نحن اللبنانيين ، مركزنا ونوع عطائنا المميزين ، وان نكونهما بالفعل ، حين تتمخض الأحداث نهائيا” عن هذا النظام .
بالطبع ، حاربنا سادسا” ، كي نسالم . هدف الحرب الأخير دائما” السلم : السلم السليم ، السلم الثابت ، السلم الصحيح . هذا السلم الآتي بعد الحرب يفترض أن يكون سلما” بيننا وبين أنفسنا ، سلما” بيننا وبين الآخرين ، وسلما” بيننا وبين العالم .
لقد اكتشفنا انّ بنياننا السياسي والمجتمعي في الفترة السابقة انطوى على كثير من الفساد والزيف ، ولم يعد بامكاننا ان نتصور انّ الجيل الجديد ، الذي حارب وناضل وضحّى وبعضه مات ، سيقبل بالعودة بعد المحنة الى ما كنا عليه قبلها، من بطر وأنانية وقصر نظر ولا مبالاة ولا مسؤولية .
فوق كل هذا ، نناضل أيضا” من أجل شيئ أثمن وأقدس وأعمق . أثمن حتى من البقاء ، أثمن حتى من الدفاع عن النفس ، أثمن حتى من حقنا الطبيعي ، أثمن حتى من السلم .
نناضل لأننا نعرف كلنا بشكل أو بآخر أنّ لبنان كنز لا يثمّن، ولا يعوّض اذا زال . لبنان وديعة عهدت الينا قبل الأزل ، وويل لنا ان نحن فرّطنا بها لأيّ سبب ومن أجل أية قضية .
هنا الحرية الشخصية الحقيقية ، هنا احترام الانسان في كرامته كانسان ، هنا الفرح الكياني العميق ، هنا إمكان استشفاف الأفق البعيد ، هنا إمكان التطلع الى الفوق الحقيقي ، الى الفوق الذي هو فوق كل فوق .
هنا إمكان النظر المسؤول في كل شيئ ، من الله الى أبسط شيئ ، الى لا شيئ . هنا إمكان معرفة الحقيقة الكاملة . هنا لا حدّ للنشدان والوجدان الاّ حدّ الحقيقة فقط . هنا إمكان التشكيك في كل شيئ ، إمكان نقد كلّ شيئ .
هنا إمكان التعمق المسؤول المنضبط في التراث العربي والاسلامي أكثر منه في أيّ بلد آخر . هنا إمكان التعمق المسؤول المنضبط في التراث الغربي والمسيحي كإمكانه في أيّ بلد آخر .
هنا يشعر المسيحي ، أو يجب ان يكون في وضع يمكنه من ان يشعر ، الآن والى الأبد ، أنّه حرّ كريم مطمئن الى حريته وكرامته ، كفرد وككنيسة ، تماما” كما يشعر المسيحي في الغرب . هنا لا يتمنّى المسيحي لنفسه ما لا يتمناه ويصرّ عليه لأخيه المسلم ، لكنه لا يقبل أن يكون ، لا بالنظر ولا بالفعل ، دون أخيه المسلم . هنا لا نقبل ان يقال ، لا الآن ولا بعد ألف سنة ، انّ المسيحي أو المسلم ، هو ، في ايّ بلد آخر في العالم ، حرّ كريم مطمئن الى حريته وكرامته أكثر منه في لبنان .
هنا المجتمع بأعرافه ومؤسساته فوق الحكومة ، بينما الحكومة في الشرق كله تقريبا” هي ينبوع كل شيئ ، وهي التي تتحكم بالمجتمع وتستغلّ أعرافه ومؤسساته .
هذه القيم جميعها ، انما هي قيم مجسدة بالفعل في لبنان ، أو هي قيم إمكان تجسيدها بالفعل في لبنان أكثر منه في أي بلد آخر.
المسألة اليوم هي : هل سيذوب هذا اللبنان ويمتصّ ، ام هل سيبقى ويتألّق . فإما ان نحافظ على هذه الوديعة الغالية بكرامة ، وإما ان نموت في سبيل الدفاع عنها بكرامة .
هذه الوديعة كنّاها بالأمس ، برغم معاصينا وعدم استحقاقنا ، وسنكونها في الغد بكل تأكيد . بل سنكونها بأشدّ مما كنّاها ، وأعمق وأسلم ، لأنّ هول خسرانها ، قد أطلّ شبحه علينا في هذه المحنة بشكل رهيب . انّ هذا الشبح المرعب لا نريده ان يصبح واقعا” أليما” في لبنان ، ولا ان يسدل ستارا” حديديا” على الفكر والحياة .
ايها المناضلون الأبطال
انكم انتم بناة هذا اللبنان وحماته . انكم انتم ورثته وأصحابه . أنكم أنتم المسؤولون عنه أمام الله والتاريخ .كونوا خليقين به. تأكدوا من قيمه وميزاته . لذلك أحبوا هذه الميزات . كونوها . أنذروا حياتكم لها . وبجهدكم سيبقى هذا اللبنان ويتأصل لأن ما قاله أحدهم هو صرخة الحّق بعينه :
سوف نبقى ، يشاء أم لا يشاء الغير فاصمد ، لبنان ، ما بك وهن
سوف نبقى ، لا بدّ في الأرض من حق وما من حق ولم نبق نحن
شارل مالك
بتصرّف – شارل كيروز